اليوجا، التأمل التصاعدي، "زا زن" أو التأمل
في وضعية الجلوس، الرياضات الروحية، إلخ: يزخر التراث الديني للإنسانية بالكثير من
الوسائل للتقرب من الآله. ولكن هل يمكننا أن نلجأ لوسيلة لا تنتمي للديانة التي
نعتنقها؟ وكيف يمكننا أن نميز بين الوسائل التي قد تساعدنا وتلك التي قد تعيقنا في
مسيرتنا الروحية؟
لم يعد سيرج الصغير يجد في نفسه مذاقاً لله، ليس لأن يسوع لم يعد
يُحدثه ولكن لأنه مع تكرار نفس الكلمات والصور منذ زمن بعيد، استقر الضجر في نفسه.
وفي يوم من الأيام، اكتشف سيرج في أحد المكتبات كتاب رسائل عن اليوجا ل
"شري أوروبيندو"، فجذبه الوجه الذي يعلو الغلاف: الشعر الأسود الناعم
الطويل للحكيم، العذوبة المتناهية لنظرته التي لا تنظر لأحد بعَينِهِ. كانت الصورة
بالأبيض والأسود إلا أن النور كان ينبعث منها، لم تكن تحمل أي لون أو أنها كانت
تحمل جميع الألوان. كان أوروبيندو مشرقاً.
ممارسة اليوجا- لماذا؟
لم يكن كتاب "أوروبيندو" عرضاً
تعليمياً ولكن سلسلة من النصائح والتشجيع لكل من يعاني من ألم أعمق من المشكلات
المادية العديدة للحياة اليومية. ساهم "شري أوروبيندو" بنفسه في تجديد
شكل اليوجا ليهديها لكل الأنفس الساكنة
بظلمة الليل. فهم سيرج أن ما يقترحه "أوروبيندو" ليس له أي علاقة بكون
اليوجا وسيلة للاسترخاء بعد أسبوع شاق. قرأ سيرج حياة "أوروبيندو" الذي
كان معلماً روحياً أصيلاً، ولد بكلكتا عام 1872 وكان ناشطاً ومناضلاَ سياسياً
وجامعياً من الدرجة الأولى.
وكان أمام سيرج طريقين: إما أن يستخدم
هذا الكتاب القيم أو أن يعيش من خلاله. فيمكن لليوجا أن تكون وصفة للوصول لغاية
فورية محددة: أن يشعر المرء بسلام وبأنه بحال أفضل في حياته اليومية. فاليوجا
تستند - مثلها مثل أغلب المدارس الروحية الكبيرة للإنسانية - على معرفة عميقة بجسد الإنسان ونفسه. ويقوم بعض
المسيحيين باستخلاص بعض القواعد التي يمكن نقلها وتطبيقها بصَلاتهم مثل وضعية
الجسد والتحكم بعملية التنفس وتجاوز العقل. ولكن ليست اليوجا كل ما سبق. فاليوجا
هي التزام مُنزه عن أي مصلحة شخصية لكل الكيان للتناغم مع ينبوعه الإلهي، الذي لا
يمكن اختزاله في جداولنا العديدة التي تمثل ذواتنا. واليوجا يمكنها أن تنتج ثماراً
محددة في حياتنا مثل حضور أكبر في العالم وتوجيه أفضل لطاقتنا. ولكن تلك الثمار لا
يجب البحث عنها لذاتها حيث سيكون الأمر بمثابة الوقوع في دائرة الرغبة والتملك
والتي تسعى اليوجا لتحريرنا منها.
قلب مضطرب
ولأن بحث سيرج كان عميقاً وصادقاً،
استطاع أن يفهم بسرعة الفرق، وأن فقط اليوجا المطلقة المُمارسة بتوجيه من معلم ذو
خبرة، هي التي تمس الجوهر. ولكن لأنها تعد بالكثير، فإنها تتطلب الكثير وتقود إلى
أبعد: "يجب على الفرد أن يكون لديه توق مضطرم لحقيقة هذا الطريق، ليس فقط
على مستوى مركزه، وإنما عليه أن يتوجه بكل كيانه نحو هذه الحقيقة ويستنير من شعلة
هذا التوق". وعندما أدرك سيرج علو ورحابة وعمق اليوجا وكونها ليست مجرد
طريقة أو منهجية، اضطرب وانقسم على ذاته. فقد تلقى في طفولته تقليداً روحياً يقترح
أيضاً طريقاً نحو الجوهر وكان مستمراً في العيش من خلاله رغم اضطرابه: "أنا
هو الطريق والحق والحياة" (يو14:6) فهل يمكن لمياه بحيرة طبرية أن تلحق
بضفاف نهر الجانج؟ جغرافياً لا يمكن، ولكن إذا روحياً؟
تتشارك المدارس الروحية الكبيرة للإنسانية في رهافة الحس،
فهي لا تشترك فقط في معرفتها بالنفس البشرية وإنما أيضاً في الاستعداد الداخلي،
هذا التحويل للنشاط الإنساني إلى انفتاح على ما هو أكبر وأعظم، هذا الطريق المُجدب
حيث تميل الكلمات والصور التي تكونت لدينا عن الله إلى التلاشي لترك المجال لله
للحديث عن نفسه. فتختفي الاختلافات.
كثيراُ ما نضع الآخر في قوالب: فالشرق
الأقصى مثلاً يرتبط لدينا بالانجذاب إلى الفراغ الداخلي والهرب من العالم المادي والذوبان
في الشخص الآلهي. مثل هذه الأحكام تتعارض مع ما كتبه أوروبيندو وتتجاهل في
الوقت نفسه التقليد المسيحي الذي لم يخش قمم وهاوية الحياة الباطنية والذي عَبَّر
ليل الروح للوصول إلى الفراغ الداخلي للحضور الآلهي الذي يفوق كل حضور. تحدث راهب
إنجليزي من القرن الرابع عشر عن التأمل وكأنه يتحدث عن "سحابة من اللا
معرفة". ربما لا نحتاج أن نذهب إلى آخر الدنيا إذا عرفنا بشكل أفضل ما لدينا؟
إن الافتتان المعاصر للزن أو اليوجا يدعونا أن نتعرف أولاً على كنوز التقليد
المسيحي. ولكن سيرج وقع على ممارس يوجا هندي وليس على راهب من القرن الرابع عشر
وكان عليه أن يتعامل مع الأمر. يبقى سؤالاً واحداً: السُكنى.
يا معلم، أين تقيم؟
ماذا سيفعل على ضفاف الجانج أو وهو
جالس في باحة أحد الأديرة الهندوسية Ashram ببونديشيري؟ يستوقفه صوت داخلي ليسأله: "أين تقيم؟ أين مسكنك
الحقيقي؟" شيء ما مازال موجوداً خلف سيرج، يكاد يكون ملموساً: ظِل أو ذكرى،
ظِل الجليلي الذي يُجاور ظله في بعض ساعات اليوم، ذكرى بعض النصوص والصلوات
والليتورجيات التي تعود إلى وجدانه. فالمسافر ليس بلا موطن، فإن نسى وطنه لم يعُد
بعد مسافراً بل هائماً. فكل حركة لا وجود لها بدون نقطة مرجعية، حتى يسوع لم يتهرب
من هذا السؤال: "يا معلم، أين تقيم؟" (يو1: 38). شعر سيرج قبل أن يسافر بالحاجة المُلحة لتعريف
أرضه وصِلاته. كانت الإجابة تخصه، كان يمكن أن يُجيب أن "باراماتمان" -
الذات الإلهية المنشودة في اليوجا- ليس المسيح، وبالتالي لم يكن هناك معضلة.
ولكن، كانت هناك إجابة أخرى ممكنة، وإن
كانت أصعب. في القرن العشرين، أسس كل من الأب "مونشانان" والأب
"سو" - قسيسان كاثوليكيان- ديراًAshram بالهند بعدما أخذا موافقة
رؤسائهما وعاشا هناك كممارسين لليوجا. قرر الأول أن يتوقف عندما اصطدم بمفهوم
ال"أدفايتا" أو اللا ازدواجية، والذي اعتبره غير متوافق مع الإيمان
المسيحي. أما الثاني، فقد عاش طريقه كراهب بينيديكتي سوامي حتى المنتهى. فقد دعا
المسيح بلا جدال بعض الأنفس لمثل هذا التجرد، ولكن تبقى هذه الدعوة استثنائية مع ضرورة
الإبقاء على الصلة بالمسيح من خلال قراءة النصوص وممارسة الأسرار والحوار مع معلم
روحي مسيحي. وبعيداً عن الطرق المعروفة مسبقاً، نلمس هنا قلب العلاقة مع الله
وجوهرها الذي يجب أن يجعلنا مهيئين ويقظين. هذه الخبرة الليلية يمكن أن تكون فرصة
لإعادة اكتشاف سر المسيح بشكل كامل أو على العكس. إجابة واحدة
نهائية: "تعالوا وانظروا".
* مقال مترجم من الفرنسية